الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الماوردي: قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانتُونَ} فيه ستة تأويلات:أحدها: مطيعون، قاله مجاهد. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة.الثاني: مصلون، قاله ابن عباس.الثالث: مقرون بالعبودية، قاله عكرمة وأبو مالك والسدي.الرابع: كل له قائم يوم القيامة، قاله الربيع بن أنس.الخامس: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له، قاله الحسن.السادس: أنه المخلص، قاله ابن جبير.قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ} أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلًا على ما خفي من إعادته استدلالًا بالشاهد على الغائب.ثم أكد ذلك بقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} وفيه ثلاثة أوجه:أحدها: إن إعادة الخلق أهون من ابتداء إنشائهم لأنهم ينقلون في الابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا ثم يعود رضيعًا ثم فطيمًا، وهو في الإعادة يصاح به.فيقوم سويًا وهذا مروي عن ابن عباس.الثالث: معناه وهو هين عليه فجعل {أهْونُ} مكان {هَيّنٌ} كقول الفرزدق:أي دعائمه عزيرة طويلة.وفي تأويل {أَهْوَنُ} وجهان:أحدهما: أيسر، قاله ابن عباس.الثاني: أسهل، وأنشد ابن شجرة قول الشاعر: أي هي أسهل عليه، وقال الربيع بن هيثم في قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} قال: ما شيء على الله بعزيز.{وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي الصفة العليا. وفيه ثلاثة أقاويل:أحدها: أنه ليس كمثله شيء، قاله ابن عباس.الثاني: هو شهادة أن لا إله إلا الله، قاله قتادة.الثالث: أنه يحيي ويميت، قاله الضحاك.ويحتمل رابعًا:-هو أعلم- أنه جميع ما يختص به من الصفات التي لا يشاركه المخلوق فيها.{في السَّموَات وَالأَرْض} أي لا إله فيها غيره.{وَهُوَ الْعَزيزُ} فيه وجهان:أحدهما: المنيع في قدرته.الثاني: في انتقامه.{الْحَكيمُ} فيه وجهان:أحدهما: في تدبيره لأمره وهو معنى قول أبي العالية.الثاني: في إعذاره وحجته إلى عباده، قاله جعفر بن الزبير. اهـ. .قال ابن عطية: {وَلَهُ مَنْ في السَّمَاوَات وَالْأَرْض كُلٌّ لَهُ قَانتُونَ (26)}.اللام في {له} الأولى لام الملك، وفي الثانية لام تعدية ل قنت إذ قنت بمعنى خضع في طاعته وانقياده، وهذه الآية ظاهر لفظها العموم في القنت والعموم في كل من يعقل، وتعميم ذلك في المعنى لا يصح لأنه خبر، ونحن نجد كثيرًا من الجن والإنس لا يقنت في كثير من المعتقد والأعمال، فلابد أن عموم ظاهر هذه الآية معناه الخصوص، واختلف المتألون في هذا الخصوص أي هو، فقال ابن عباس وقتادة: هو في القنت والطاعة وذلك أن جميع من يعقل هو قانت لله في معظم الأمور من الحياة والموت والرزق والقدرة ونحو ذلك، وبعضهم يبخل بالعبادة وبالمعتقدات فلا يقنت فيها فكأنه قال كل له قانتون في معظم الأمور وفي غالب الشأن، وقال ابن زيد ما معناه: إن الخصوص هو في الأعيان المذكورين كأنه قال: {وله من في السماوات والأرض} من ملك ومؤمن، وقوله: {يبدأ الخلق} معناه ينشئه ويخرجه من العدم، وجاء الفعل بصيغة الحال لما كان في هذا المعنى ما قد مضى كآدم وسائر القرون وفيه ما يأتي في المستقبل، فكانت صيغة الحال تعطي هذا كله، و{يعيده} معناه يبعثه من القبور وينشئه تارة أخرى، واختلف المتأولون في قوله: {وهو أهون عليه} فقال ابن عباس والربيع بن خيثم: المعنى وهو هين ونظيره قول الشاعر:بمعنى لوجل، وقول الآخر: وقولهم في الأذان الله أكبر وقال الآخر وهو الشافعي:فتلك سبيل لست فيها بأوحد. واستشهد بهذا البيت أبو عبيدة وهذا شاهده كثير، وفي مصحف ابن مسعود {وهو هين عليه} وفي بعض المصاحف و{كل هين عليه} وقال ابن عباس أيضًا ومجاهد وعكرمة: المعنى وهو أيسر عليه، وإن كان الكل من اليسر عليه في حيز واحد وحال متماثلة، ولكن هذا التفضيل بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون علينا من البداءة للتمرن والاستغناء عن الروية التي كانت في البدأة، وهذان القولان الضمير فيهما عائد على الله تعالى، وقالت فرقة أخرى: الضمير في {عليه} عائد على الخلق.قال الفقيه الإمام القاضي: فهذا بمعنى المخلوق فقط، وعلى التأويلين يصح أن يكون المخلوق أو يكون مصدرًا من خلق، فقال الحسن بن أبي الحسن إن الإعادة أهون على المخلوق من إنشائه لأنه في إنشائه يصير من حالة إلى حالة، من نطفة إلى علقة إلى مضغة ونحو هذا، وفي الإعادة إنما يقوم في حين واحد، فكأنه قال وهو أيسر عليه، أي أقصر مدة وأقل انتقالًا، وقال بعضها: المعنى {وهو أهون} على المخلوق أن يعيد شيئًا بعد إنشائه، أي فهذا عرف المخلوقين فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق.قال الفقيه الإمام القاضي: والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ويؤيده قوله تعالى: {وله المثل الأعلى} لما جاء بلفظ فيه استعارة واستشهاد بالمخلوق على الخالق وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به تكييف ولا تماثل مع شيء والعزة والحكمة، صفتان موافقتان لمعنى الآية، فبهما يعيد وينفذ أمره في عباده كيف شاء. اهـ. .قال أبو السعود: {وَلَهُ} خاصة {مَن في السموات والأرض} من الملائكة والثَّقلين خَلقًا ومُلكًا وتصرُّفًا ليس لغيره شركةٌ في ذلك بوجهٍ من الوجوه {كُلٌّ لَّهُ قانتون} أي منقادُون لفعله لا يمتنعون عليه في شأنٍ من شؤونه تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} بعد موتهم، وتكريرُه لزيادة التَّقرير والتَّمهيد لما بعده من قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} أي بالإضافة إلى قُدَركم والقياس على أصولكم وإلا فُهما عليه سواءٌ وقيل أهونُ بمعنى هَيّنٌ، وتذكير الضمير مع رجوعه إلى الإعادة لما أنَّها مؤَّولةٌ بأنْ يُعيد وقيل: هو راجعٌ إلى الخلق وليس بذاك، وأما ما قيل من أنَّ الإنشاء بطريق التَّفضل الذي يتخيَّر فيه الفاعلُ بين الفعل والتَّرك، والإعادةُ من قبيل الواجب الذي لابد من فعله حتمًا فكان أقربَ إلى الحصول من الإنشاء المتردد بين الحصول وعدمه فبمعزلٍ من التَّحصيل إذ ليس المرادُ بأهونية الفعل أقربيَّتَه إلى الوجود باعتبار كثرة الأمور الدَّاعية للفاعل إلى إيجاده وقوَّة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتَّيه وصدوره عنه بعد تعلق قدرته بوجوده وكونه واجبًا بالغير ولا تفاوتَ في ذلك بين أنْ يكون ذلك التعلق بطريق الإيجاب أو بطريق الاختيار. {وَلَهُ المثل الاعلى} أي الوصفُ الأعلى العجيبُ الشأن من القدرة العامَّة والحكمة التَّامة وسائر صفات الكمال التي ليس لغيره ما يُدانيها فضلًا عمَّا يُساويها، ومن فسَّره بقوله لا إله إلا الله أرادَ به الوصفَ بالوحدانية {في السموات والأرض} متعلق بمضمون الجملة المتقدّمة على معنى أنَّه تعالى قد وُصف به وعُرف فيهما على ألسنة الخلائق وألسنة الدَّلائل، وقيل: متعلق بالأعلى وقيل بمحذوفٍ هو حالٌ منه أو من المثل أو من ضميره في الأعلى {وَهُوَ العزيز} القادر الذي لا يعجزُ عن بدء ممكنٍ وإعادته {الحكيم} الذي يجري الأفعالَ على سَنَن الحكمة والمصلحة. اهـ..قال الألوسي: {وَلَهُ} عز وجل خاصة كل {منْ السموات والأرض} من الملائكة والثقلين خلقًا وملكًا وتصرفًا ليس لغيره سبحانه شركة في ذلك بوجه من الوجوه {كُلٌّ لَّهُ} لا لغيره جل وعلا {قانتون} منقادون لفعله لا يمتنعون عليه جل شأنه من شأن من الشؤون وإن لم ينقد بعضهم لأمره سبحانه فالمراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة، وهذا حاصل ما روى عن ابن عباس، وقال الحسن: {قانتون} قارن بالشهادة على وحدانيته تعالى كما قال الشاعر:وقال ابن جبير: {قانتون} مخلصون، وقيل: مقرون بالعبودية، وعليهما ليس العموم على ظاهره.{وَهُوَ الذي يبدأ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} بعد الموت؛ والتكرير لزيادة التقرير لشدة إنكارهم البعث والتمهيد لما بعده من قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} الضمير المرفوع للإعادة وتذكيره لرعاية الخبر أو لأنها مؤولة بأن والفعل وهو في حكم المصدر المذكر أو لتأويلها بالبعث ونحوه، وكونه راجعًا إلى مصدر مفهوم من {يُعيدُ} وهو لم يذكر بلفظ الإعادة لا يفيد على ما قيل لأنه اشتهر به فكأنه إذا فهم منه يلاحظ فيه خصوص لفظه والضمير المجرور لله تعالى شأنه، و{أَهْوَنُ} للتفضيل أي والإعادة أسهل على الله تعالى من المبدأ، والأسهلية على طريقة التمثيل بالنسبة لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شيء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء، والمراد التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث وإلا فكل الممكنات بالنسبة إلى قدرته تعالى عز وجل سواء فكأنه قيل: وهو أهون عليه بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم.وذكر الزمخشري وجهًا آخر للتفضيل وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب الذي لابد من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال إما محال والمحال ممتنع أصلًا خارج عن المقدور، وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنع الإحالة، وأما تفضل والتفضل حاله بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله، وأما واجب لابد من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها منه كانت أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت كذلك كانت أهون من الإنشاء. اهـ.قال في التقريب: وفيه نظر لأنه مبني على الوجوب العقلي ولأن الوجوب إذا كان بالذات نافي القدرة كالامتناع وإلا كان ممكنًا فتساوي الفعلان لاشتراكهما في مصحح المقدورية وهو الإمكان.وتعقبه في الكشف بقوله أقول: إنه غير واجب بالذات ولا يلزم منه المساواة مع التفضل في سهولة التأتي وأما المساواة في مصحح المقدورية فلا مدخل لها فيما نحن فيه، والحاصل منه أنه لو سلم منه أن الداعي إلى فعله أقوى فلا شك أنه أقرب إلى الوجود مما لا يكون الداعي كذلك.نعم إذا خلص الداعي إلى القسمين صارا سواء، وليس البحث على ذلك التقدير. اهـ.والحق ما قاله أبو السعود من أنه ليس المراد بأهونية الفعل أقربيته إلى الوجود باعتبار كثرة الأمور الداعية للفاعل إلى إيجاده وقوة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتيه وصدوره عنه عند تعلق قدرته بوجوده وكونه واجبًا بالغير، ولا تفاوت في ذلك بين أن يكون ذلك التعلق بطريق الإيجاب أو بطريق الاختيار.وروى الزجاج عن أبي عبيدة وكثير من أهل اللغة أن {أَهْوَنُ} هاهنا بمعنى هين، وروى ذلك عن ابن عباس والربيع، وكذا هو في مصحف عبد الله، وهذا كما يقال: الله تعالى أكبر أي كبير وأنت أوحد الناس أي واحدهم وإني لأوجل أي وجل.وفي الكشف التحقيق أنه من باب الزيادة المطلقة، وإنما قيل بمعنى إلهين لأنه يؤدي مؤداه، وقيل: أفعل على ظاهره وضمير عليه عائد على الخلق على معنى أن الإعادة أيسر على المخلوق لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانًا والإعادة لا تحتاج إلى التدريجات في الأطوار إنما يدعوه الله تعالى فيخرج.وأما على معنى أن الإعادة أسهل على المخلوق أي أن يعيدوا شيئًا ويفعلوه ثانيًا بعدما زاولوا فعله وعرفوه أولًا أسهل من أن يفعلوه أولًا قبل المزاولة وإذا كان هذا حال المخلوق فما بالك بالخالق، ولا يخفى أن الظاهر رجوع الضمير إليه تعالى، ثم إن الجار والمجرور صلة {أَهْوَنُ} وقدمت الصلة في قوله تعالى: {وَهُوَ على هَيّنٌ} [مريم: 9و21] وأخرت هنا لأنه قصد هنالك الاختصاص وهو محزة فقيل {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} وإن كان صعبًا عندكم أن يولد بين هم وعاقر وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى، ولما أخبر سبحانه بأن الإعادة أهون عليه على طريق التمثيل عقب ذلك بقوله تعالى: {وَلَهُ} تعالى شأنه خاصة {المثل} أي الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال {الاعلى} الذي ليس لغيره ما يدانيه فضلًا عما يساويه فكأنه قيل هذا لتفهيم العقول القاصرة إذ صفاته تعالى عجيبة وقدرته كل شأنه عامة وحكمته سبحانه تامة فكل شيء بدأ وإعادة وإيجادًا وإعدامًا على حد سواء ولا مثل له تعالى ولا ند.وعن قتادة ومجاهد أن {المثل الأعلى} لا إله إلا الله، ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية في ذاته تعالى وصفاته سبحانه، والكلام عليه مرتبط بما قبله أيضًا كأنه قيل: ما ذكر لتفهيم العقول القاصرة لأنه تعالى لا يشاركه أحد في ذاته تعالى وصفاته عز وجل، وقيل: مرتبط بما بعده من قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلًا مّنْ أَنفُسكُمْ} [الروم: 8 2] وقال الزجاج: المثل قوله تعالى: {هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} قد ضربه الله تعالى مثلًا فيما يسهل ويصعب عندكم وينقاس على أصولكم فاللام في المثل للعهد وهو محمول على ظاهره غير مستعار للوصف العجيب الشأن {في السموات والأرض} متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى أنه سبحانه قد وصف بذلك وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وقيل: بالأعلى، وقيل: بمحذوف هو حال منه أو من {المثل} أو من ضميره في {الاعلى} وقيل: متعلق بما تعلق به {لَهُ} أي له في السماوات والأرض المثل الأعلى، والمراد أن دلالة خلقهما على عظيم القدرة أتم من دلالة الإنشاء فهو أدل على جواز الإعادة ولهذا جعل أعلى من الإنشاء فتأمل {وَهُوَ العزيز} القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن وإعادته {الحكيم} الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة. اهـ.
|